يعتبر متنزّه (الحديقة الوطنية) قمران أحد المواقع الأثرية المثيرة والأكثر أهمية في إسرائيل. يؤمّه آلاف السيّاح في كل عام، للتعرف عن قرب على بدايات النصرانية والمكان الذي وجدت فيه المخطوطات التي يتم تعريفها على أنها أهم اكتشاف أثري في القرن العشرين! إنه موقع استثنائي، أثرت الأحداث التي وقعت فيه وفي محيطه قبل ألفي عام، على العالم أجمع.
من أجل فهم قمران، يجب العودة بالزمن إلى الوراء، إلى إحدى الفترات المصيرية في حياة الشعب اليهودي، وإلى الأيام الأولى للديانة التي ستصبح بعد عدّة سنوات الديانة المسيحية – قترة الهيكل الثاني. فترة دراماتيكية ستغير مجرى التاريخ، سواء بالنسبة لليهودية أو للمسيحية التي ستولد قريبا.
تكشف زيارة المكان أمامكم عن قصة مجموعة سرّية، علماء آثار مثابرون، مخطوطات صمدت في الصحراء لآلاف السنين وولادة ديانة جديدة. تسكن هذه القصة المثيرة داخل أحد أجمل الأماكن – مع واجهة على البحر الميت، وظهر يتكئ على جرف ههعتكيم المرصّع بعشرات الكهوف السرية. لكن تعالوا نروي هذه القصة الهامة، بالترتيب الصحيح.
الأسينيون
ليس هنالك الكثير من المعلومات المعروفة عن هذه المجموعة السرية التي عاشت هنا وعن طبيعة حياتها. بل إن اسمها ليس واضحا بما يكفي. في بعض المصادر، يتم ذكرهم بوصفهم “أهل مجموعة الصحراء” أو “أهل المعاً”، وفي قسم آخر يطلق عليهم الأسينيون، “مجموعة العدالة” أو ببساطة “مجموعة قمران”.
من المعروف أنهم رأوا بالمعمودية والطهارة طقسا بالغ الأهمية، وفعلا، بالإمكان مشاهدة الكثير من بقايا أحواض الطهارة، أكثر بكثير من المتعارف عليه في بلدات أخرى من نفس الفترة. لقد عاشوا حياة متواضعة بل وحتى زهد، احتقروا الفساد والغنى المادي، آمنوا بالحياة المشتركة وكانوا أشخاصا مثقفين جدا. خصصوا قسما كبيرا من يومهم للدراسة والكتابة. تذكروا ذلك، فسنعود إليه في تتمة القصة.
في هذا الموقع، بالإمكان مشاهدة الكثير من الآثار التي تدلّ على طابع حياتهم المميز – غرفة اجتماعات، غرفة طعام مشتركة، ورش عمل وغرف للكتب. بعد الثورة الكبيرة، قام الرومان باحتلال قمران، واختفت المجموعة المثيرة.
خرج للبحث عن عنزة، فوجد كنزاً
تقفز قصّتنا الآن بضع مئات من السنين إلى الأمام. قمران مهجورة، ولا يتجول فيها إلا بضع قبائل بدوية من حين لآخر. يحصل كل ذلك في العام 1946. شاب بدوي خرج للبحث عن عنزة ضلّت طريقها، رمى حجرا داخل مغارة، فسمع صوت فخّار ينكسر. اكتشف في المغارة مخطوطات قديمة، فقام بجمعها وعرضتها عائلته للبيع في سوق بيت لحم. هنا تبدأ قصة مغامرات مثيرة ومليئة بالمصادفات (أو ليس كذلك…). لم يفهم تجّار الآثار حجم المخطوطات الموجودة بين يديهم، وتنتقل المخطوطات من يد إلى يد، من تاجر إلى تاجر، إلى أن سمع بها البروفيسور إليعزر ليفا سوكينك، وقرر شراءها. في 17 تشرين الثاني 1947، في يوم إعلان الأمم المتحدة عن دولة إسرائيل، وصل البروفيسور إلى بيت لحم ونجح بشراء 3 مخطوطات.في أعقاب الاكتشاف، بدأ البدو بالبحث عن مخطوطات إضافية في منطقة قمران، وقد وجدوا الكثير من المخطوطات الإضافية، في 11 كهفا مختلفا.
في العام 1954، تم نشر إعلان في صحيفة في الولايات المتحدة، بشأن بيع مخطوطات من صحراء يهودا.أسرع يجئال يادين، الذي كان يعيش في تلك الفترة في الولايات المتحدة، بشرائها واكتشف أن أصلها هي أيضا من قمران.
المخطوطات
بين الأعوام 1952-1956 بدأت حفريات منظمة في قمران. הلعب المناخ الجاف في المكان دوراً إيجابيا مع الآثار، وقد تم حفظها بصورة رائعة. خلال هذه الحفريات، تم اكتشاف جزء كبير من المباني التي بالإمكان مشاهدتها في الموقع اليوم وكذلك مقبرة كبيرة فيها نحو 1,200 قبر. لكن لؤلؤة تاج الاكتشافات الأثرية في المكان هي المخطوطات، والتي تعتبر أكبر اكتشاف أثري في القرن الـ 20.
ما المميز إلى هذا الحد في هذه المخطوطات؟ إنها أقدم مخطوطات عبرية، فقد تم تأريخها للقرون الأول والثالث للميلاد، وهي تلقي الضوء على إحدى أهم الفترات الصاخبة في حياة الشعب اليهودي. بالإضافة إلى ذلك، يتيح عددها الكبير، وحقيقة أنها قد حفظت بصورة جيدة، للباحثين إمكانية دراسة هذه الفترة بصورة أكثر شمولية.
بين المخطوطات الهامة، بالإمكان إيجاد نص كامل من سفر إشعيا، “مخطوطة النحاس” التي تتحدث عن كنز مخفي، مخطوطة الشكر ومخطوطة “حرب أبناء النور وأبناء الظلام”. تتواجد كافة المخطوطات اليوم في دار الكتاب في القدس، ومن المفضل جدا إكمال زيارة قمران بمشاهدة المخطوطات.
العلاقة مع النصرانية
تعتبر قمران أيضا منطقة جذب للكثير من السيّاح المسيحيين أو محبي التاريخ ممّن يحضرون لمشاهدتها. تشير الكثير من الدلائل إلى العلاقة الوثيقة بين الأسينيين الذين عاشوا هنا وبين الناس الذين شكّلوا بدايات النصرانية. كانت طبيعة حياة الأسينيين شبيهة جدا بحياة المسيحيين الأوائل، كما أن مبادئ إيمانهم كانت متشابهة – التواضع، الاكتفاء بالقليل، حياة المشاركة.. إحدى مواعظ يسوع المسيح المشهورة – العظة على الجبل، تشبه كثيرا إحدى المواعظ الموجودة في المخطوطات التي عثر عليها في قمران. كذلك، يقتبس بولس، أحد أرفع رسولين ليسوع المسيح، في العهد الجديد مقطعا من أبناء النور وأبناء الظلام، أي الأسينيون، أهل قمران. بالإضافة إلى ذلك، من المعروف أن يوحنا المعمدان قام بتعميد يسوع المسيح في قصر اليهود، قريبا جدا من قمران. כتجعل كل هذه الأمور، من قمران، موقعا بالإمكان التواصل فيه بسهولة، والشعور بأيام النصرانية الأولى، والتي لم تكن قد انفصلت عن اليهودية بعد في تلك الأيام، وكانت تخطو خطواتها الأولى في العالم.
زيارة الموقع
عند مدخل الموقع، هنالك غرفة عرض صغيرة، يمكنكم فيها مشاهدة فيلم عن تاريخ قمران. من هناك، يتم الخروج إلى متحف صغير يتواجد فيه قسم من المخطوطات التي تم العثور عليها في المكان، وتجسيد لطبيعة حياة الأسينيين. من هناك، يتم الخروج في جولة دائرية بين البقايا الأثرية الموجودة في المكان. في نقطة معينة في الموقع، بالإمكان مشاهدة المغارة رقم 4، وهي المغارة المشهورة التي تم العثور فيها على أغلبية المخطوطات. من المفضل جدا، التزوّد عند المدخل بجهاز مع إرشادات صوتية، والمتوفر بعدّة لغات، والاستماع من خلاله، في كل نقطة، إلى فصل من التاريخ الدراماتيكي لهذا المكان المميز.
